المادة    
على أية حال هذا جانب، والذي يهمنا أكثر الآن في هذه الحلقة هو: ما يتعلق بالمملكة التي سوف تأتي كيف كان تصورها في نظر اليهود؟ وكذلك المنقذ كيف يكون في نظر اليهود؟
لم يكن هناك تقريباً أي اختلاف عند اليهود في أن هذا المُلك سيكون مُلكاً مادياً، مملكة بمفهومها الحرفي, ملك يبعثه الله تبارك وتعالى -وهنا عندما نقول: ملك نذكر بما قلنا في الحلقة الماضية وما قبلها أن داود ملك, وأن سليمان ملك، فالمهم عندهم أنه ملك- ويأتي فيوحد هذه المنطقة, ويجمع هذه الشعوب، ويقضي على كل الوثنيات والإمبراطوريات, وكل الاستبداد في التاريخ، فهو رجل حقيقي ويسمونه: ملك, والدولة التي يقيمها هي مملكة, والعدل الذي يقيمه عدل حقيقي؛ بمعنى: أنه إقامة أحكام الشريعة، كما هي الشريعة موضحة في التوراة ؛ شريعة القصاص مثلاً, شريعة العدالة في كل شيء.. إلى آخره، عبارة عن شريعة حقيقية تقيم الحدود, وتأمر بالمعروف, وتنهى عن المنكر.
كانت هذه النظرة السائدة لدى اليهود , وتأتي على ذلك نبوءاتهم الكثيرة جداً -التي إن شاء الله نأتي على شيء منها بالتفصيل- من أشهرها وأهمها: نبوءة النبي أشعياء, وهو نبي عظيم من أنبيائهم، وتستطيع أن تستخرج من كل فصل من فصول كتاب أشعياء حقيقة تدل على هذا الأمر؛ لأن المرحلة التي كان فيها هو ومن بعده من الأنبياء كانوا في مرحلة شدة الاضطهاد، فكانوا يعزُّون أنفسهم ويعزون بني إسرائيل بهذا النبي الذي سوف يأتي، على أن هناك إخباراً منهم بأنه سوف يكون هنالك مسيح, وسوف يكون هنالك مشيح -نحن سوف نستخدم المصطلحات التوراتية فقط للإيضاح الآن-.
المشيح أو المسيّا -إما بالشين وإما مسيّا كما يقولون: إن أصلها كلمة آرامية- هذا هو الذي سيكون الملك، أما المسيح فإنه سوف يكون بين يدي المسيّا أو المشيح, وهذا سوف يكون نبي من أنبياء بني إسرائيل, وفي الأناجيل واضح -وإن شاء الله نأتي عليه بالتفصيل- أن الناس كانوا يسألون المسيح عليه السلام لما بعث: أأنت المسيّا؟ يسألونه: هل هو الملك؟!
ثم التهمة التي وجهت للمسيح عليه السلام والتي اتهمته بها اليهود عند الرومان؛ أنه هو الملك! يعني: يدعي المُلك ويدعي أنه المسيّا الذي سوف يدمر مملكة الروم, وهم يتقربون بهذه التهمة إلى الرومان؛ بأننا نحن من أوليائكم, ونحن من رعيتكم ومملكتكم العظيمة الطيبة, ونحن مواطنون رومانيون، فهذا الرجل يجب أن تقتلوه؛ لأنه يدعي أنه سوف يقيم مملكة ضد مملكتكم.
هذا الكلام أدى إلى التباس كبير جداً في مسألة من هو المسيح؟ ومن هو المشيح -بالشين- أو المسيا؟ مع أنهما شخصيتان مختلفتان -على ما سوف نوضحه إن شاء الله- واختلطت شخصية ثالثة أيضاً - فقط للإيضاح نقولها الآن- أنه سيأتي ابن الإنسان أو ابن الرجل؛ فأيضاً أصبحت المشكلة هل أنت ابن الرجل؟ هل أنت ابن الإنسان؟
فعندما -هذا هو المهم هنا الآن- أراد النصارى أن يثبتوا أن ما أخبر به الأنبياء السابقون, وكل ما جاء في الكتب السابقة جميعاً أنه المسيح عليه السلام، وينفون وينكرون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم, وما سوف يأتي به من الدين الحق والمملكة التي تقيم دين الله، أولوا هذه الأخبار جميعاً تأويلاً روحانياً!
بمعنى: أن الاضطهاد هو روحي ديني فقط، والخلاص هو الخلاص من الخطيئة وليس الخلاص من ملوك بابل , أو من الأسر في بابل , أو من ملوك الشرك في مصر , أو في عمون أو موآب أو غيرها إلى آخر الشعوب التي حاربت اليهود ، إنما القضية هي خلاص من الخطيئة الأصلية التي اختلقوها ونقلوها عن أفكار وثنية قديمة -نوضحها إن شاء الله فيما بعد- فالقضية قضية خلاصية روحية بحتة, فهي فقط ما يتعلق بالروح.
المملكة التي يقيمها المسيح وسوف تقوم له في آخر الزمان -لأنها لم تقم طبعاً, هم يقولون بأنه صلب وهو رفع ولم تقم- هي مملكة روحانية, وبعضهم يقول: المملكة الروحانية هي عرش المسيح عليه السلام في قلوب المؤمنين به حيث انتشر الإيمان به، واعتقاد أنه ابن الله -تعالى الله عن ذلك- واعتقاد أنه هو الله تجسد ونزل الأرض وانتشر في أرجاء الأرض.
إذاً: هذه هي المملكة, والتي يمثلها الرمز العام الذي هو الكنيسة، والكنيسة عندهم الهيئة المكونة من مجموع المؤمنين, كما هو واضح في المبادئ الكاثوليكية, ثم بعد ذلك خرجت بعض الفرق الأخرى.
المقصود أنهم يقولون: الإشكالية والاضطهاد روحي، والخلاص هو روحي, جاء به المسيح عليه السلام، والمملكة هي الإيمان الذي وقع في قلوب الأتباع, فانتشرت في أنحاء الأرض, هذه العقائد التي يسمونها مسيحية, ويظنون أنها هي حقيقة دين المسيح عليه السلام.
بمعنى آخر: لا وجود لمملكة حقيقة, مَلِك حقيقي.. نَبي حقيقي من بني البشر، يقيم الدين ويقيم الشريعة بمفهومها المادي المعروف الذي يؤمن به اليهود ، وكانوا من شدة إيمانهم به أنه وجد في اللفائف الفلسطينية -في لفائف البحر الميت وفي غيره- معلومات تفصيلية عن الأسينيين وغيرهم؛ أنهم كانوا يعدون تنظيماً جهادياً قتالياً ويقولون: أول ما يأتي المنتظر فنحن جنوده, ونحن سوف نقاتل معه، هذا التنظيم العجيب والدقيق -وفعلاً دقيق دقة عجيبة نعرض لها إن شاء الله في حينها- في وقتٍ هم فيه مضطهدون, ويصدر من جماعة يهودية قليلة العدد, ومعتزلة مترهبة, فهم أقرب شيء ما يكونوا من الرهبان المتشددين في الرهبانية، ومع ذلك يكون لديهم تنظيم قتالي جهادي!
معنى ذلك: نستشهد بهذا هنا على شدة اعتقاد اليهود ووضوح اعتقادهم بأن النبي حقيقي, وأن القتال حقيقي, وأنه سيقيم في واقع الأرض هذه المملكة؛ التي تقوم على دين الله, وعلى شرع الله وتدمر بالسيف وبالسهام وبالقوة كل ممالك الوثنية، ويظهر الحق والدين, ويُعبد الله تبارك وتعالى، وتُبنى وتعمر مدينة الله.